خبرة الإنسان ليست سوى مجموعة من التراكمات التي اكتسبها خلال سنوات عمره سواء بين أفراد عائلته أوفي دراسته أو حتى في تعاملاته اليومية مع الأصدقاء والزملاء والأقران والجيران.
كل هذه العوامل تتفاعل في بوتقة واحدة وتنتج عنها شخصية الفرد بميوله واتجاهاته وأفكاره وآرائه وتقيماته للأمور، ثم تنصهر لتكون الثقافة العامة للشخص، بجميع عناصرها من دين وعادات وتقاليد، فإذا بالشخص يدور في فلك ما ورثه وما نقل اليه من البيئة المحيطة به، على اعتبار أن “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”.
ولكن هل يعني هذا أن الإنسان يظل طوال حياته أسيرا لأفكار ورثها بحلوها ومرها وغثها وسمينها؟ هل يظل مقيدا في عباءة الماضي ولسان حاله يقول إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، فإذا به يكرر خطأ السابقين غير مستفيد من تجاربهم، لأنه ببساطة قرر أن يلغي عقله ويسير وهو معصوب العينين مسدود الأذنين موثوق الساقين، مستسلما لأفكار ربما لو ناقشها في جلسة صفاء مع النفس لاستهجنها واستغربها وتعجب من حاله كيف يقتنع بها وكيف يصدقها؟ لكنه كمن يضع إصبعه في أذنه ويستغشي ثيابه خوفا من الحق أن يسمعه فيصدقه فيسير في ركابه على غير رغبة منه!!
رغم أنه من المفترض أن ما وصل إليه الإنسان المعاصر من تقدم في الفكر وفي التعليم وفي النظرة إلى الأشياء المحيطة به يجعله يمتلك رؤية انتقائية تمنحه القدرة على اختيار توجهاته والتطلع إلى تعديل سلوكياته وتقويم موروثاته، لكن الحاصل أنه على الرغم من كل ذلك يظل حبيس أفكار هو أول من يعلم أنها أفكار بالية أكل عليها الدهر وشرب، لكنه في الوقت ذاته لا يملك القدرة على تحرير نفسه وتخليصها من قيود الماضي إلى رحابة المستقبل.
ولا يعني ذلك أن ننسلخ من ماضينا، فانا أول المؤمنين بضرورة ربط الماضي بالمستقبل وربط الفروع بالجذور، ولكنني في الوقت ذاته أرى ضرورة الانطلاق إلى آفاق جديدة لا تكبلها أوهام وتخاريف الماضي.
فكم من الأفكار التي آمنت بها أجيال وربما حاربت من أجلها، هي في الأساس أفكار بعيدة عن أي أصل ديني أو علمي أو منطقي، وإنما ينساق الناس في ركابها دون إدراك لما قد تمثله من خطورة على الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية.
ربما كانت هذه الأفكار صالحة في وقت ما وفي ظروف ما، لكن وكما هي سنة الحياة، الوقت يتغير والظروف تتغير والأوضاع تتغير، فما الداعي إذن للإبقاء على أنماط سلوكية تعيق تقدمنا وتجعل الغير ينظر إلينا نظرة دونية؟
أعتقد أن الوقت قد حان لإجراء مراجعات ذاتية شاملة لجميع تصرفاتنا وتنقيتها من كافة الشوائب والعوالق التي تجعل الصورة من أمامنا صورة ضبابية غير واضحة المعالم والأبعاد.
ما المانع أن نحذف من حياتنا كل ما هو حمل على طموحاتنا وأحلامنا طالما أن هذا المحذوف غير مأمور به على المستوى الشرعي ولا يمثل ضرورة في حياتنا الاجتماعية؟ أعتقد لو أننا استطعنا فعل ذلك، لكنا قد وضعنا أقدامنا على بداية الطريق الصحيح نحو مستقبل أفضل.