لكل منا رؤيته الخاصة في القضايا المثارة من حوله، وهو حق أصيل، لا يمكن لأحد الحجر عليه، ومن حق كل منا بالفعل أن يميل إلى توجه معين أو تفسير خاص أو تحليل ما، شريطة أن تكون هذه الرؤية موضوعية ومتفقة مع الثوابت العامة التي لا تخضع للاجتهادات الشخصية، وهو الأمر الذي يتطلب تثبتا واعيا قبل الإفصاح عن هذه الآراء.
المشكلة أن الثقافة المجتمعة العامة لم تعد تفرق بين الآراء وبين الانطباعات الخاصة، وهو ما يقودنا غالبا إلى الوقوع في مطب الاختلافات الغير منضبطة إن جاز التعبير، لأنني أتصور أن أي خلاف لابد له من مضبطة خاصة تضمن له عدم الانجرار إلى مناطق غير آمنة، يقل أمنها أكثر وأكثر عندما تتحول إلى عقائد مستقرة في الوجدان.
وهنا مكمن الخطورة، حيث تصل الخلافات المبنية على الآراء الخاصة في بعض الأحيان إلى حد الوثوق في الرأي فقط دون أن منح النفس ولو فرصة لمراجعة ما أوشكت على الاستقرار عليه.
والسبب في ذلك، أن الرأي غير المنضبط قد يقود صاحبة إلى الدفاع عنه بضراوة ليس دفاع عن هذا الرأي في حد ذاته أو عن عقيدة ثابتة وإنما هو دفاع عن كبرياء خاص يقود صاحبه لأن تأخذه العزة بالإثم ويقوده إلى المغالطات والسفسطة وتغيير الحقائق، فقط لإثبات قوة موقفه.
هؤلاء غالبا يمكن دحض أباطيلهم، لكن الخطورة أن بعض هؤلاء قد يمتلكون حججا لفظية أو قد يكون لديهم قدرة على الجدل أو قدرة على استمالة الغير أو قدرة على قلب الحقائق، مما يروج آرائهم التي هم أول المقتنعين بعدم موافقتها للحقيقة، لكن لكما قلت أنها تنطلق من باب الانتصار للكبرياء الشخصي.
أتصور أننا نستطيع وضع حد لهذه المهاترات لو أننا ومنذ البداية لم نقحم أنفسنا فيما لا دخل لنا به ولم نتعجل الولوج في مناقشات دون أن يكون لنا الخلفيات الثقافية والفكرية التي تضمن لنا الانطلاق من أفكار موضوعية ورؤى صحيحة يمكن أن تمثل إضافة للحوار يمكن أن تثري القضية محل النقاش.
لكن الذي يحدث أن مناقشاتنا الغير مبنية على أساس تعكس ولوضع وبدلا من تثري القضية، فإنها تثري الخلاف وتعمق جزر الانشقاقات والتجاذبات الفكرية ودون أن نشعر نجد المجتمع الذي يفترض أنه نسيج واحد وفكر واحد وأسس واحدة تحول المجتمع إلى ما يشبه الكيانات التي يصب كل منها في اتجاه غير الذي يصب الآخر فيه، وهنا تحدث الشروخ الاجتماعية الصغيرة التي توصل إلى شروخ أكبر ثم شروخ أكبر إلى أن تصبح شروخا عملاقة من الصعب التآمها.
الغريب أن هذه الخلافات عادة ما تنطلق ممن ليسوا أهلا لها، لكنها سرعان ما تجر إليها من يعتقد أنهم بالفعل أهلا لضبط وقائع الأمور وهو ما يعد قلبا للشكل الذي يفترض أن تكون عليه الأوضاع.